بدأ البابا فرنسيس اليوم سلسلة جديدة من التّعاليم متأمّلاً ببعض المواضيع الّتي يقترحها الرّسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية لأجل اكتشاف الدّرب الّذي يجب اتّباعه في أيّامنا، وذلك خلال المقابلة العامّة، فقال بحسب "فاتيكان نيوز":
"بعد المسيرة الطّويلة المخصّصة للصّلاة، نبدأ اليوم سلسلة جديدة من التّعاليم. أرغب في أن أتأمّل حول بعض المواضيع الّتي يقترحها الرّسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية. إنّها رسالة مهمّة جدًّا، لا بل حاسمة، ليس فقط للتّعرّف على الرّسول بشكل أفضل، وإنّما وبشكل خاصّ للنّظر في بعض المواضيع الّتي يتعامل معها بعمق، مُظهرًا جمال الإنجيل. يذكر بولس في هذه الرّسالة العديد من مراجع سيرته الذّاتيّة الّتي تسمح لنا بمعرفة ارتداده وقراره بوضع حياته في خدمة يسوع المسيح. كذلك يتناول أيضًا بعض المواضيع المهمّة جدًّا للإيمان، مثل مواضيع الحرّيّة والنّعمة وطريقة الحياة المسيحيّة، والّتي هي آنيّة جدًّا لأنّها تلمس العديد من جوانب حياة الكنيسة في أيّامنا هذه.
إنَّ السّمة الأولى الّتي تظهر من هذه الرّسالة هي عمل البشارة العظيم الّذي قام به الرّسول، الّذي زار جماعات غلاطية مرّتين على الأقلّ خلال رحلاته الرّسوليّة. يخاطب بولس المسيحيّين في تلك المنطقة. ولكنّنا لا نعرف بالضّبط المنطقة الجغرافيّة الّتي يشير إليها، ولا يمكننا أن نؤكِّد على وجه اليقين التّاريخ الّذي كتب فيه هذه الرّسالة. نحن نعلم أنّ الغلاطيّين كانوا من السّكّان السّلتيِّين القدامى الّذين استقرّوا، من خلال العديد من المغامرات، في تلك المنطقة الممتدّة من الأناضول الّتي كانت عاصمتها في مدينة أنسيرا، أنقرة اليوم، عاصمة تركيا. ويروي بولس أنّه اضطرّ للتّوقّف في تلك المنطقة فقط بسبب المرض. أمّا القدّيس لوقا في سفر أعمال الرّسل فيجد دافعًا روحيًّا أكبر؛ ويقول إنّهما "طافا فِريجِيَة وبِلادَ غَلاطِية لأَنَّ الرُّوحَ القُدُسَ مَنَعهما مِنَ التَّبشيرِ بِكلِمةِ اللهِ في آسِيَة". هاتان الحقيقتان لا تتعارضان: بل تدلّان على أنّ درب البشارة لا تعتمد دائمًا على إرادتنا ومشاريعنا، ولكنّها تتطلّب الاستعداد لأن نسمح بأن نُصاغ ونتبع مسارات أخرى لم تكن متوقّعة. لكن ما نتحقّق منه هو أنّ الرّسول، في عمله التّبشيريّ الدّؤوب، استطاع أن يؤسِّس عدّة جماعات صغيرة منتشرة في جميع أنحاء منطقة غلاطية. عندما كان القدّيس بولس يصل إلى مدينة ما، ووسط جمع ما، كان يؤسس جماعات صغيرة والتي شكلت خمير ثقافتنا المسيحيّة اليوم. وكانت هذه الجماعات الصّغيرة تنمو وتمضي قدمًا. هذه الطّريقة الرّعويّة ما زالت تستخدم إلى الآن في المناطق الإرساليّة.
ما نريد أن نلاحظه هو الاهتمام الرّاعويّ لبولس الّذي، بعد أن أسّس هذه الكنائس، تنبّه لخطر كبير ستواجهه بسبب نموُّها في الإيمان. في الواقع، تسلّل بعض المسيحيّين الّذين جاءوا من اليهوديّة وبدأوا يزرعون بمكر نظريّات مخالفة لتعاليم الرّسول، حتّى أنّه بلغ فيهم الأمر إلى حدّ تشويه سمعته. كما يمكننا أن نرى، من الممارسات القديمة أن يقدّم المرء نفسه في بعض المناسبات على أنّه المالك الوحيد للحقيقة وأن يهدف إلى التّقليل من شأن العمل الّذي يقوم به الآخرون حتّى من خلال الافتراء. لقد كان معارضو بولس هؤلاء يقولون إنّه على الوثنيّين أيضًا أن يخضعوا للختان وأن يعيشوا وفقًا لقواعد شريعة موسى. لذلك، كان على أهل غلاطية أن يتخلّوا عن هويّتهم الثّقافيّة لكي يخضعوا للقواعد والتّعليمات والعادات النّموذجيّة لليهود. ليس فقط. بل كان هؤلاء المعارضون أيضًا يقولون إنّ بولس لم يكن رسولًا حقيقيًّا وبالتّالي لم يكن لديه سلطة لكي يبشّر بالإنجيل. لنفكّر في بعض الجماعات المسيحيّة أو في بعض الأبرشيّات تبدأ القصص لتنتهي بعدها هذه القصص لتشويه صورة كاهن الرّعيّة، أو الأسقف. إنّه بالضّبط طريق الشّرّ وهو طريق هؤلاء الأشخاص الّذين يريدون التّفريق، وهو الطّريق الّذي لا يعرف البناء.
لقد كان أهل غلاطية في حالة أزمة. ماذا عليهم أن يفعلوا؟ أن يصغوا إلى بولس ويتبعوا ما بشّرهم به، أو أن يصدّقوا المبشِّرين الجدد الّذين كانوا يتّهمونه؟ من السّهل أن نتخيّل حالة عدم اليقين الّتي حرّكت قلوبهم؛ لأنّه بالنّسبة لهم، شكّلت معرفة يسوع وإيمانهم بعمل الخلاص الّذي تحقّق بموته وقيامته بداية حياة جديدة. كانوا قد شرعوا في مسيرة سمحت لهم بالتّحرّر أخيرًا، على الرّغم من أنّ تاريخهم قد نُسج بالعديد من أشكال العبوديّة العنيفة، من بينها تلك الّتي أخضعتهم لإمبراطور روما. لذلك، وإزاء انتقادات المبشّرين الجدُد، شعروا بالضّياع وعدم اليقين حول كيف يجب عليهم أن يتصرّفوا ومن يجب عليهم أن يصدِّقوا. بإختصار، كانت المخاطر كبيرة حقًّا!
هذه الحالة ليست بعيدة عن الخبرة الّتي يعيشها العديد من المسيحيّين في أيّامنا هذه. حتّى اليوم، في الواقع، لا يغيب المبشّرون الّذين، وخاصّة عبر وسائل الاتّصال الحديثة، يقدّمون أنفسهم لا لكي يعلنوا إنجيل الله الّذي يحبّ الإنسان في يسوع المصلوب والقائم من الموت، وإنّما لكي يعيدوا التّأكيد بإصرار، كـ"حماة حقيقيّين للحقيقة"، ما هي أفضل طريقة لتكون مسيحيًّا. فهم يؤكّدون بقوّة أنّ المسيحيّة الحقيقيّة هي تلك الّتي يرتبطون بها والّتي غالبًا ما يتمّ تحديدهم بأشكال معيّنة من الماضي، وأنّ حلّ أزمات اليوم هو العودة إلى الوراء لكيلا نفقد أصالة الإيمان. وبالتّالي فاليوم أيضًا، كما كان الحال آنذاك، هناك باختصار تجربة الانغلاق على بعض القناعات والحقائق المكتسبة في التّقاليد الماضية. ولكن كيف يمكننا أن نتعرّف على هؤلاء الأشخاص، على سبيل مثال؟ إحدى الدّروب الواجب اتّبعاها هي الصّلابة أمام مواعظ الإنجيل الّذي يحرّرنا ويسعدنا. إنّ اتّباع تعليم الرّسول بولس في الرّسالة إلى أهل غلاطية سيفيدنا لكي نفهم أيّ درب ينبغي علينا اتّباعه. إنَّ الدّرب الّذي أشار إليه الرّسول هو الدّرب المحرّر والمتجدّد ليسوع مصلوب والقائم من الموت. إنّه درب البشارة الّتي تتحقّق من خلال التّواضع والأخوَّة. الواعظون الجدد لا يعرفون ما هو التّواضع وما هي الأخوّة. إنّها درب الثّقة الوديعة والمطيعة، الواعظون الجدد لا يعرفون الوداعة أو الطّاعة، في اليقين بأنّ الرّوح القدس يعمل في كلّ عصر من عصور الكنيسة وفي نهاية المطاف، الإيمان بالرّوح القدس موجود في الكنيسة، ويحملنا إلى الأمام وسينقذنا شكرًا" .
#شربل سكران بألله